ضمن فعاليات الدورة التاسعة والثلاثين لمعرض تونس الدولي للكتاب، احتضن جناح وزارة الشؤون الثقافية اليوم الأربعاء ندوة فكرية بعنوان “الإعلام الثقافي”، أشرف على تنسيقها الأستاذ كمال بن دخيل، بمشاركة نخبة من الباحثين والمثقفين التونسيين والعرب، من بينهم عبد المجيد مرايحي، محمد معمري، عماد قطاط، نور الدين الحاج محمود، وعبد السلام لصيلع.
وقد استقطبت المداخلة الفكرية للقاص السعودي حمزة عبده كاملي اهتمام الحضور، حيث تناول في كلمته التحولات العميقة التي يشهدها المشهد الإعلامي الثقافي في ظل العصر الرقمي، مؤكدًا أن “الإعلام الثقافي لم يعد ترفًا نخبويًا بل ضرورة حضارية تمسّ جوهر الوعي الجمعي”. وفي سياق يطغى فيه الترفيه السريع على المضامين الجادة، دعا كاملي إلى إعادة الاعتبار للثقافة كعنصر مركزي في بناء الإنسان والمجتمع، عبر وسائل إعلامية قادرة على مرافقة التحولات دون التفريط في العمق والمعنى.
هذه المداخلة لم تكن خطابًا وظيفيًا، بل جاءت كمشروع رؤية، منبثقة من تجربة رجل يجمع بين الإبداع السردي (في مجموعته “أقمار خائفة”) والعمل الثقافي المؤسساتي (مؤسس نادي القراءة بجامعة جازان، ومبتكر مبادرات كـ الرصيف الثقافي وطريق الحرير الأدبي). إنه مثقف ميداني لا يكتب من برج عاجي، بل من صلب التجربة.
الإعلام الثقافي: سلطة ناعمة أم واجهة مهمّشة؟
في زمن تسطّح فيه وسائل الإعلام وتحوّلت فيه القضايا العميقة إلى محتوى ترفيهي، يعيد حمزة كاملي تعريف الإعلام الثقافي كـ”سلطة ناعمة” قادرة على اختراق الحواجز النفسية والاجتماعية، وصناعة وعي لا يكتفي بالبث، بل يسائل الواقع ويعيد تشكيله.
وهنا يطرح كاملي سؤالًا ضمنيًا: لماذا يغيب الإعلام الثقافي الحقيقي، رغم فائض القنوات والمنصات؟ والجواب، كما يمكن أن يُستشف من طرحه، يكمن في أزمة المحتوى، لا في الأدوات. نحن نملك الوسائل، لكن نفتقد البوصلة.
من الهوية إلى الذائقة: كيف يُعيد الإعلام الثقافي تشكيل الإنسان؟
قسّم حمزة مداخلته إلى ستة محاور تكمّل بعضها البعض وتفتح نوافذ على دور الإعلام الثقافي في إعادة بناء الإنسان:
تعزيز الهوية الثقافية: الإعلام الثقافي ليس معنيًا بنقل الأخبار فقط، بل باستعادة التاريخ، التراث، اللغة، والفنون بوصفها مكوّنات أصيلة في الوجدان الجمعي. وهو هنا يدافع عن دور الإعلام في ترميم ذاكرة الجماعة وحماية التنوع الثقافي من طوفان العولمة.
نشر القيم الإنسانية والتسامح: ينحاز كاملي لإعلام يبني لا يهدم، إعلام لا يؤدلج بل ينفتح، يعيد الاعتبار لفكرة “الآخر” كشريك في المعنى، لا كعدو. وفي ظل التطرّف الذي يختبئ أحيانًا خلف خطاب ديني أو قومي، تصبح هذه الوظيفة من صميم مهام الإعلام الثقافي.
تطوير الذوق العام والفكر النقدي: ليست الثقافة محتوى جاهزًا، بل عملية تشكيل مستمرة للذائقة، تنقيح للروح، ورفع لسقف التوقعات الجمالية. والإعلام الثقافي، كما يراه حمزة، يمكن أن يكون ورشة عامة لتربية الذوق، لا نادٍ مغلق للنخبة.
معالجة القضايا المجتمعية: وهنا يحذر من إعلام لا يلامس الواقع، بل يزيّنه فقط. يريد إعلامًا ثقافيًا يتناول قضايا مثل البيئة، الصحة النفسية، التعليم، وحقوق الإنسان، من منظور ثقافي عميق لا تسطيحي.
دعم الحوار بين الثقافات: يرفض كاملي فكرة الانغلاق الثقافي، ويدعو إلى إعلام يعبر الحدود، يستعرض تجارب الشعوب، وينفتح على المغاير دون خوف. فالعزلة الثقافية ليست حفاظًا على الهوية، بل انتحار بطيء لها.
تمكين الشباب: يرى أن الإعلام الثقافي هو المساحة التي يجب أن يرى فيها الشباب أنفسهم، لا كمستهلكين بل كمبدعين. وهذا جزء من إعادة توزيع الضوء في المشهد الثقافي، من الكبار فقط إلى الطاقات الجديدة.
هل يكفي الإعلام لنشر الثقافة؟
وراء هذا الطرح، تكمن معضلة أكبر: هل الإعلام قادر وحده على أن يكون محرّكًا للثقافة؟ وهل الإعلام الثقافي بمعناه التقليدي ما زال قادرًا على منافسة منصات التواصل التي تُنتج محتوى خفيفًا لكنه أكثر انتشارًا؟
ربما لا يجيب كاملي مباشرة، لكنه يقترح طريقًا ثالثًا: ليس العداء مع التكنولوجيا، بل استثمارها. أن نحمل المحتوى العميق بأدوات عصرية. أن ننتج برامج وأعمالًا ثقافية لا تتحدث عن الثقافة بل بها، بخطاب جذاب، لغته مرنة، وأفقه عالمي.
لماذا تُحسب هذه المداخلة علامة فارقة؟
لأنها تربط بين الفكر والممارسة. حمزة لا يتحدث كأكاديمي منعزل، بل كفاعل ثقافي خبر الميدان، قاد مبادرات، وأشرف على حوارات بين الثقافات، ويجمع بين التكوين السردي والحس الإداري (حاليًا مدير التميز المؤسسي في إمارة عسير ومدير لمشروع الاستراتيجية).
إنه يمثل نموذجًا للمثقف العربي الذي يحاول أن يشتغل داخل المؤسسات لا خارجها، ويقاوم تهميش الثقافة لا بالشجب، بل بالفعل.
كأن الأستاذ حمزة كاملي أراد أن يقول: لسنا بحاجة إلى المزيد من القنوات، بل إلى المزيد من المعنى. لسنا بحاجة إلى “نشرات” ثقافية، بل إلى “رؤى” ثقافية. ولعلّ هذا بالضبط هو الدور المستقبلي للإعلام الثقافي في مجتمعاتنا العربية: أن يتحوّل من ناقل للثقافة إلى صانع لها، ومن مرآة إلى بوابة.