في أمسيةٍ مشبعة بالشجن والأصوات القادمة من بعيد، احتضن ركح مهرجان الحمامات الدولي ليلة 15 جويلية عرضين موسيقيين جمعتهما وحدة التجربة أكثر مما جمعت بينهما أنماط الموسيقى: “رَست” من لبنان وسوريا، و”السارة والنوباتونز” من السودان. لقاءٌ لم يكن نتيجة مجرّد تنسيق برمجي، بل حوار عميق بين وجعين، وصدىً لحنين لا يُشبه الحنين التقليدي بل يحمل بصمات النفي والمنفى.
الثنائي “رَست” — اللبنانية بترا الحاوي والسوري هاني مانجا — قدّما عرضًا ينقل الطرب العربي من الماضي إلى الحاضر دون أن يكسر الرابط مع الأصل. اعتمد الأداء على إعادة توزيع ألحان كلاسيكية بإيقاعات إلكترونية، لا لتفكيكها بل لإعادة تركيبها ضمن فضاء معاصر، يمنحها حياة جديدة دون أن يجرّدها من معناها التاريخي.
ألبومهما الأخير “مسار”، المستلهم من رحلة المرأة العربية، كان محور العرض، حيث قُدّمت القصائد المغنّاة بلغة تحاور الداخل والوجدان، بالتعاون مع الشاعرة جنى سلّوم. في “مسار”، لا تكون المرأة موضوعًا، بل ذاتًا ناطقة، تسير بين أنقاض اللغة وأسلاك المنفى.
في حديثهما بعد العرض، عبّر الثنائي عن تقديرهما لركح الحمامات، بما يحمله من رمزية ثقافية، ورأيا في الجمهور التونسي شريكًا حقيقيًا في العملية الإبداعية. بترا الحاوي شدّدت على أهمية التفاعل البصري مع الجمهور، وقالت:
“حين ألتقي نظراتهم، يخرج الصوت من أعماقي.”
أما أغنية “دياسبورا”، فوصفتها بأنها “تطهير ذاتي”، تحاول عبره ترتيب الغربة التي لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل شرخًا داخليًا في الهوية والانتماء.
هاني مانجا أشار إلى أن مشروع “رَست” ليس ترفًا موسيقيًا، بل محاولة واعية لإعادة كتابة الصوت العربي بصيغة معاصرة، رغم ما يفرضه ذلك من تحديات فنية وقانونية، خاصة فيما يتعلّق بحقوق إعادة توزيع الأغاني الكلاسيكية.
على الجانب الآخر من السهرة، جاءت السارة — الصوت السوداني المهاجر — لتملأ المكان بطاقة مختلفة. ليست فقط موسيقى أفريقية، بل سرد حيّ لذاكرة الشتات، حيث تذوب الحدود بين الجغرافيا والهوية، وتتحوّل الأغنية إلى وطن بديل.
مع فرقتها “النوباتونز”، قدّمت السارة عرضًا نابضًا، تداخل فيه الهيب هوب مع التكنو، وأغنيات البنات مع أهازيج النوبة، في مزيج صوتي يكسر القوالب ولا يستسلم للنوستالجيا.
من “سلام نوبيا” إلى “مين أنا”، كانت الأغاني أشبه برسائل مشفّرة من وجدان امرأة تنتمي إلى أمكنة كثيرة، ولا تجد لها في الخرائط مرسى.
تميّز العرض باستخدام آلة “Lap Steel Guitar”، التي رأت فيها السارة امتدادًا لصوت شرق أفريقيا، وأداة تُشبه النسيج الصوتي الذي تبحث عنه في أعمالها.
“الموسيقى لوحة”، قالت، “والآلات ألوان أختارها حسب القصة التي أريد أن أرويها.”
في حديثها عن المنفى، قالت السارة عبارة مؤثرة: “الحنين أحيانًا يشبه الهيروين العاطفي… تتجمّد الذاكرة عند لحظة مثالية يصعب استعادتها.”
ووصفت تجربتها في المهجر بأنها لحظة تؤسس لإعادة فهم الذات والانتماء، حيث لا يعود الوطن مكانًا، بل حالة يُعاد بناؤها من أصوات وأطباق وذكريات.
لم يكن الجمهور في هذه السهرة مجرّد حضور صامت، بل طرفًا فاعلًا في التجربة. صفق، ردّد، تفاعل، وكأنه يقول للفنانين: لسنا بعيدين عن هذا الوجع. كنّا معكم في كل نغمة، وكل تنهيدة حملتها آلاتكم، وكل شجن مرّ عبر أصواتكم.
وفي استمرار للاحتفاء بالفنون، يُنتظر أن يُعرض مساء الأربعاء 16 جويلية العمل المسرحي “أم البلدان”، من تأليف عز الدين المدني وإخراج حافظ خليفة، في تعاون ثالث بينهما بعد “رسائل الحرية” و”عزيزة عثمانة”. ويتناول العرض سيرة مؤسس الدولة الحفصية أبو زكرياء الحفصي، كإضاءة على زمنٍ كانت فيه تونس منارة حضارة وعدالة وابتكار.