كافون… وداعًا يا نغمة الحيّ و وجع الشارع

صباح السبت 10 ماي 2025، خفتَ صوت كان يملأ الشوارع، ينطق باسمهم، ويشدو بحزنهم وفرحهم، وانكسر لحنٌ كان يعلو فوق الضجيج… رحل أحمد العبيدي، المعروف فنيًا باسم “كافون”، عن عمر يناهز 43 سنة، مخلفًا وراءه فراغًا يصعب ملؤه، وذكرى ستظلّ عالقة في وجدان جيل بأكمله.

 

كان كافون حالةً فنية فريدة في تونس، ابن الشعب ومرآته، لا جاء من مدارس الفن ولا من قاعات العروض الكبرى، بل خرج من الأزقة ومن وجع الحياة اليومية، يحمل صوته المبحوح وقلبه المفتوح على العالم. بصوته الصادق، وبساطة حضوره، وحميمية أغانيه، صار أقرب ما يكون إلى الناس، أولئك الذين وجدوا في أغنياته لغةً تنوب عنهم حين يخونهم التعبير.

 

حوماني”… النشيد غير الرسمي

حين أطلق أغنيته الأشهر “حوماني”، بالشراكة مع الفنان محمد أمين الحمزاوي، لم يكن يعلم أنه بصدد تدشين مرحلة جديدة في الراب التونسي. الأغنية، التي وُلدت من رحم الحيّ، كانت أكثر من عمل فني؛ كانت إعلانًا صريحًا عن هوية فنية شعبية، لا تُجمل الواقع ولا تخجل من وصفه كما هو. هي لحظة صدق نادرة في مشهد موسيقي يطغى عليه أحيانًا التكلّف أو التنميط.

 

“حوماني” لم تكن مجرّد أغنية، بل تحوّلت إلى أيقونة شبابية، تردّدها الشفاه في الحافلات والمدارس والملاعب، وتعبّر عن جيل بأكمله يشعر بالتهميش، ويبحث عن صوت يمثله. و معها، بدأ اسم كافون يُتداول بكل حب واحترام، لا فقط في الأوساط الفنية، بل في البيوت والمقاهي والأحياء.

 

فنان الشعب… وصوت المقهورين

تميّز كافون بأسلوبه المباشر، غير المتكلّف. أغانيه مثل “معليش”، “نحب نقلع”، و”الأيام” لامست القلوب لأنها خرجت من قلبٍ يعرف معنى الألم، ويعرف أكثر كيف يحوّله إلى فنّ. لم يسعَ يومًا إلى النجومية في شكلها السطحي، بل إلى أن يكون قريبًا من الناس. وهذا ما جعله محبوبًا، لا فقط بسبب صوته، بل بسبب شخصيته: بسيطة، متواضعة، نقية.

 

ولم يكتف كافون بالأغاني الحديثة، بل غاص في ذاكرة التراث، فأعاد تقديم أغانٍ شعبية قديمة مثل “صقع الليل”، “جيت نعوم”، و”ميقودة”، بروح عصرية دون أن يُفقدها أصالتها. بذلك، صار جسرًا بين الأجيال، جامعًا بين القديم والجديد، بين الراب والتراث، بين الحنين والواقع.

 

ممثل بالفطرة

و لأن الموهبة لا تعرف القوالب، خاض كافون غمار التمثيل، فكان حضوره أمام الكاميرا تلقائيًا لا يقلّ صدقًا عن غنائه. في مسلسلات مثل “النوبة”، “كان ياما كانش”، “رقوج” وسيتكوم “قسمة وخيان”، برع في أدوار منحها من روحه وعفويته. لم يكن ممثلًا تقليديًا، بل شخصًا يحمل في عينيه قصة، وفي صوته خلفية مشهد حيّ، جعله يتقمّص الأدوار لا تمثيلًا، بل عيشًا.

 

مقاوم بالصمت

خاض كافون معركة صامتة مع المرض، لم يتاجر بها، لم يطلب شفقة، بل واجهها كما واجه الحياة: بكرامة. عرفه جمهوره قويًّا في ضعفه، صامدًا في تعبه، محتفظًا بابتسامته الساخرة حتى في أحلك اللحظات. و حين رحل، رحل كما عاش… بهدوء، وصدق.

 

إرث لا يُنسى

برحيله، تفقد تونس أحد وجوهها الفنية الأكثر صدقًا. لم يكن صوتًا عابرًا، بل علامة فارقة في مسار موسيقي واجتماعي. كافون ترك وراءه إرثًا غنيًا، لا فقط من الأغاني، بل من القيم: الصدق، التواضع، والبساطة. سيظلّ حاضراً في الذاكرة الجماعية، وستبقى كلماته حيّة في الأحياء التي أحبّته، وفي قلوب من كبروا على نبرة صوته.

 

وداعًا كافون.. وداعًا يا ابن الشعب.. غادرتنا في صمت، لكن صوتك سيظلّ أعلى من الغياب، وأقوى من الموت.

 

ريم حمزة

 

Related posts

من بينها كوثر بن هنية: 3 أسماء عربية في لجان تحكيم الدورة الـ80 لمهرجان البندقية السينمائي

root

اليوم: عرض “عشاق الدنيا” لعبد الحميد بوشناق يفتتح الدورة 56 لمهرجان قرطاج الدولي

root

2000 طفل فاقد للسند يواكبون عرضي “سندريلا السرك على الجليد” بمهرجان قرطاج الدولي

قبل الأولى