حين يعزف الكمان، تصمت المدن لتُصغي، وتنحني المسافات بين ضفّتي العالم، فتمتزج الأنامل لتولد موسيقى تُشبه الأحلام، وتغدو الأوتار جسورًا من نور، تعبر بنا نحو ذاكرة الشعوب ونبض الإنسانية جمعاء.
ومن رحم هذا الحلم، وفي إطار التعاون الدولي والتبادل الثقافي بين الجمهورية التونسية ممثلة في وزارة الشؤون الثقافية ودولة كندا، وُلد عرض “كمان حول العالم” (Violon autour du monde) للعازف وليد الغربي، وهو مشروع فني متنقل تونسي–كندي، جاب خلال أواخر شهر جويلية 2025 عددًا من المهرجانات الصيفية، ليعيد رسم خريطة الموسيقى من الشمال إلى الجنوب.
انطلقت الجولة من مهرجان منوبة الدندان يوم 26 جويلية، لتصل إلى مهرجان سيدي بومنديل بهرقلة، ثم مهرجان العبادلة الدولي بسبيطلة، ومرّت بـمهرجان قبلي الدولي، قبل أن تختتم فعالياتها في مهرجان البحر برواد ومهرجان ليالي المهدية الدولي.
هذا العرض ساهم في تعزيز أواصر التعاون والتقارب والتفاهم بين البلدين، مجسّدًا على أرض الواقع إرادة مشتركة في توسيع مجالات الشراكة الفنية والانفتاح المتبادل. وقد جدّدت هذه المبادرة الثقة في قدرة الثقافة على أن تكون جسرًا من جسور الإبداع والمعرفة والإنسانية، وأداةً للتعبير عن قيم مشتركة، ومقدمة لمبادرات مستقبلية تعمّق التعاون بين المؤسسات والمبدعين في كلا البلدين.
قدّم العازف وليد الغربي، بمشاركة كل من الفنانين غابور ديسموند هيغيدوس، مشفق الهاشمي، بالإضافة إلى الأصوات الغنائية ياسر بالصادق، كريم شراد، وكريمة مناعي، تجربة موسيقية جمعت بين إيقاعات التانغو اللاتيني وأنغام الفلكلور الإفريقي النابضة بالحياة، وصولًا إلى جماليات الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، في توليفة مزجت بانسيابية مع المقامات الشرقية العريقة، لتصنع رحلة فنية عابرة للحدود.
ولأن الفن لا يختصر في الصوت وحده، بل يتجلّى أيضًا في اللون والخطّ والرمز، شهدت العروض مشاركة متميزة للفنانتين التشكيليتين ماري كلار وملاك جابو، حيث كان حضورهما نابضًا على الخشبة، ترسمان اللوحة في اللحظة، متأثرتين بسحر الأنغام وتدفّق العواطف.
ومع كل نغمة، كانت الألوان تتناغم مع الموسيقى، حتى اكتملت اللوحة كخلاصة بصرية للعرض، تمّ إهداؤها في ختام كل سهرة إلى إطارات المندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية الراعية للمهرجانات، كعربون وفاء واحتفاء بروح التلاقي بين الفنون، وتكريسًا لفكرة أن الموسيقى والتشكيل، حين يجتمعان، يصنعان لغة جديدة قادرة على لمس الوجدان من زوايا متعددة.
لم تكن عروض “كمان حول العالم” مجرّد محطات فنية متنقلة، بل كانت فرصة متميزة لتقديم معزوفات راقية، ولإعادة اكتشاف طاقات فنية محلية ودولية، وفتح نوافذ جديدة للتبادل الثقافي الحيّ بين تونس وكندا. لقد تحوّلت هذه التجربة إلى مختبر تفاعلي للفنون، حيث التقت الموسيقى بالرسم، وتكاملت الإبداعات في مشهد واحد يجمع بين الأصالة والانفتاح.