بعد 25 جويلية: جمهورية بلا ملامح وهيئات دستورية في مهب الريح - avant-premiere

بعد 25 جويلية: جمهورية بلا ملامح وهيئات دستورية في مهب الريح

صادق رئيس الجمهورية قيس سعيد على الدستور الجديد للبلاد التونسية بعد أن ألغى العمل بدستور 2014، وجرى ذلك  على إثر الاستفتاء الشعبي الذي انتظم يوم 25 جويلية، ضمن خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس بعد اتخاذه للإجراءات الاستثنائية وحله للبرلمان، ليدخل بذلك  حيّز التطبيق الرسمي، بعد إعلان الهيئة العليا للانتخابات عن اعتماده بنسبة 94.6 بالمئة من أصوات الناخبين،  ليقع اعتماده رسميا بتاريخ 17 أوت 2022 وهو تاريخ تنزيله في الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية.

وينص الدستور الجديد للبلاد الذي غير نظام الحكم في تونس إلى نظام رئاسي، على تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه هو نفسه ويتحكم فيه  ويمكن اقالته متى أراد، هذا الى جانب ممارسته صلاحيات ضبط السياسة العامة للدولة والتي يحدد اختياراتها الأساسية.

 

في المقابل يعطي الدستور الجديد للبرلمان دورا أقل بكثير من ذلك الدور الذي يلعبه في الدستور القديم حيث لم تعد للبرلمان صلاحيات تعيين أو إقالة الحكومة. ولا ينص الدستور الجديد أيضا على آلية لعزل رئيس الجمهورية الذي يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة ووزراء يشرف هو على تعيينهم كما أن الدستور الجديد ضمن للرئيس صلاحيات أوسع وأشمل مما كان عليه في الدستور القديم.

 

 

تونس نحو نظام رئاسي أم رئاسوي ؟

 

من حكم الحبيب بورقيبة، إلى زين العابدين بن علي، وصولا إلى مرحلة ما بعد الثورة التونسية عرفت البلاد أنظمة سياسية مختلفة قبل وبعد الاستقلال من الحكم الملكي إلى النظام المختلط مرورا إلى الحكم الرئاسوي.

لا يزال القلق يساور التونسيين حول النظام الرئاسي في تونس خاصة من خلال دستور 1959 والسياسة الاستبدادية التي عرفتها تونس خلال فترة حكم زين العابدين بن علي عبر نظام رئاسي مطلق، فترة شهدت  هيمنة نظام الحزب الواحد وغياب التعددية السياسية وحرية الصحافة وأنشطة المجتمع المدني.

هذا الى جانب عديد التنقيحات الدستورية التي كرست رئاسة مدى الحياة أهمها رفع السن القانونية القصوى للترشح للانتخابات الرئاسية إلى 75 عاما بدلا من 70، وإلغاء حد الولايات الرئاسية الثلاث.

 

https://youtube.com/shorts/R-un0_HJmIU?feature=share

 

وفي مقارنة يقول مصطفى الكريمي خبير في القانون الدستوري أن هذا النظام هو مشابه للنظام السويسري خاصة في ما يخص مجالس الجهات والأقاليم الذي ينتخب فيه المواطن بصفة مباشرة النائب في جهة معينة، يتدرج فيها ليصل الى الهيئة الحاكمة وهو ما يحيلنا للسلطة التنفيذية، هذا واعتبر  الخبير أن النظام مشابه للنظام السياسي في تونس الى حد ما خاصة في التدرج الهرمي، سادت نماذج هذا النظام في العالم الغربي بقيادة تاريخية للولايات المتحدة التي أخذت بالنظام الرئاسي عام 1787، وكان خيارا فرضته طبيعة الدولة الناشئة إذ تحتفظ فيه بصلاحيات واسعة في تسيير شؤونها المحلية، في حين تتحكم الحكومة الفيدرالية في مجالات الدفاع والسياسة الخارجية،كذلك  فرنسا التي أقرت النظام الرئاسي في دستور 1848 لكن الصراع السياسي بين السلطة التنفيذية والتشريعية أنهى تلك التجربة بانقلاب عسكري قاده لويس نابليون بونابرت.

يضطلع هذا النظام السياسي بعدة مزايا خاصة بعد أن لقي نجاح  في البلدان ذات التجربة الديمقراطية المتكاملة والتي يكون فيها مستوى النضج والوعي السياسيين عالياً مثل الولايات المتحدة الأمريكية.

من أبرز هذه الميزات نذكر تأمين استقرار الحكومة بغض النظر عن الاتجاهات الحزبية المعارضة مثلما حدث في تونس بعد أن شهد المشهد السياسي العديد من الانقسامات الحزبية وهو إذا ما سيوفر استقرار سياسيا لمرحلة انتخابية كاملة.

من جهة ثانية وبالنسبة للمآخذ فإن هذا النوع من النظم السياسية يؤدي إلى استبداد السلطة التنفيذية وهيمنة الرئيس سياسياً ودستورياً في الحياة الوطنية وإعادة انتخابه لأكثر من مرة إذ يمنح دستور 2022 الرئيس حصانة كاملة، ولا يشير إلى أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من قبل باقي المؤسسات الدستورية.

 

سياسة اتصالية تقوم على التعتيم والإقصاء

 

شهدت تونس خلال الأشهر الماضية انقسامات بين المواطنين إزاء عدة إجراءات أهمها الاستفتاء بين مؤيدين رأوا فيها تصحيحًا لمسار الثورة ومعارضين اعتبروها انقلابًا على الديمقراطية وحكم الدستور وبين هذا وذاك يجد المواطن البسيط نفسه ضائعا بين المفاهيم التي تبدو جديدة وغير مألوفة في المشهد السياسي.

يصنف الخبراء في الاتصال السياسي أن قيس سعيد  من بين الرؤساء الذين يعتمدون على تقنية الاتصال المباشر بالجمهور مستنجدا بصفحة الفايسبوك وذلك منذ تقلده منصب رئاسة الجمهورية .

وفي هذا السياق يرى الخبير في القانون الدستوري مصطفى كريمي أن هذه السياسة الاتصالية مسألة مفتعلة خاصة بالنسبة للمواطن العادي البسيط أمام سردية رئيس الجمهورية الذي يعتبر أن الأزمات تتعلق بالأحزاب والبرلمان ويظهر ذلك خاصة خلال استنجاده في احدى الاجتماعات بصور من البرلمان وهو ما يحيل المواطن البسيط الى اعتبار ان الخلاص من هذا البرلمان لن يكون إلا بيد قيس سعيد ولن يكون ذلك إلا من خلال الدستور الجديد، وهذا نوعا ما المقصود به تعزيز الثقة بين رئاسة الجمهورية التي تعتبر السلطة التنفيذية وبين الشعب وزرع الكره لكل ما هو سلطة تشريعية ونواب.

ويضيف الكريمي ان رغم ذلك فإن المواطن التونسي اليوم لا زال حائرا أمام هذه المفاهيم التي تبدو جديدة على المشهد السياسي التونسي  مثل مجلس الجهات والأقاليم ومجلس نواب الشعب الذي سيكون نوعا ما وطني وهذا لم يتضح بعد وهو ما عبر عنه الخبير بالمسألة المفتعلة خاصة وان الشرح والتوضيح لازال غائبا أهمها الحملات التفسيرية للدستور.

 

https://youtu.be/EdGo6ICeaIw

جاء استفتاء الخامس والعشرين من جويلية ليعمِّق حيرة المواطن أمام المشهد السياسي اليوم الذي عرف عدة تطورات جذرية غير مألوفة ومع هذه التغيرات يجد المواطن اليوم نفسه تائها مع ما تبثه رئاسة الحكومة، سواء كان فيما يتعلق بالخطابات أو المستجدات  التي بدت للمواطنين مبهمة بعض الشيء. فالزخم الشعبي الذي أُعلنت في ظله التدابير الاستثنائية مثل تجميد البرلمان وغيره، لم يلبث أن تراجع بشكل ملحوظ ومتسارع بعد فترة قصيرة وذلك بعد ان وجد المواطن نفسه اليوم أمام حيرة لما ستؤول له الأوضاع السياسية .فالفئات التي التفَّت حول قرارات الرئيس في البداية ورأت فيها تصحيحًا لمسار الثورة، خاب أملها  كثيرا  بعد الاصطدام بمشهد سياسي ضبابي الملامح.

 

جمهورية بلا ملامح وهيئات دستورية  في مهب الريح

 

لا يختلف شكل النظام السياسي اليوم عن النظم السابقة التي شهدتها تونس على مر تاريخها، حيث تبدو ملامح دستور الجمهورية الثالثة بصلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، حيث يقوم الرئيس اليوم  بتعيين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة، وخير دليل على ذلك يمكن أن نتحدث عن التحويرات الأخيرة على رأس عدد من الوزارات مثل وزارة المالية أو مرسوم عزل القضاة وتعيين أخرين، وأيضا أعضاء هيئة الإنتخابات والمجلس المؤقت للقضاء.

الى جانب ذلك تمكَّن رئيس الجمهورية قيس سعيّد من إلغاء أغلب المؤسسات الدستورية التي تأسست على نص دستور 2014 وعلى مدى العشر سنوات من البناء الديمقراطي، ومنها هيئة مكافحة الفساد والمجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وقد استهل الرئيس سيره في مسار جديد  بدءًا بغلق مؤسسة البرلمان وإعفاء الحكومة وتعطيل الدستور وإصدار الأمر الرئاسي عدد  117 الذي يمكنه من كل الصلاحيات، مرورًا بإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

الى حد الآن لازال الجدل قائما في البلاد حول ما إذا كان الدستور الجديد قد ألغى مختلف الهيئات الدستورية الأخرى على غرار هيئة الإتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة النفاذ الى المعلومة، خاصة وأنه لم يقع التنصيص في الدستور الجديد على إلغاء أي هيئة أو استبدالها، وقد نصص الفصل 38 من دستور الجمهورية الجديدة على الحق في النفاذ الى المعلومة الأمر الذي دفع البعض الى إعتبار أن الهيئات الدستورية لازالت قائمة إلا إذا جاء نص قانوني يقضي بحذفها.

بناء على ما سبق يحيلنا هذا التغيير الكبير الى أن نظام الحكم في تونس تحول إلى  نظام رئاسي وعندما نتحدث عن النظام الرئاسي نعني حتما نظام حكم يضع الهيئة التنفيذية بيد رئيس الدولة وهو رئيس الصفوة الحاكمة بمساعدة رئيس الحكومة الذي يعينه هو بنفسه.

وفي هذا السياق يوضح الباحث في القانون الدستوري مصطفى كريمي أن هناك خلط في ما يتعلق بمفاهيم النظام الرئاسي و”النظام الرئاسوي” وهو نظام شهد العديد من الانحرافات وهو يحيلنا الى  أن رئيس الجمهورية يتمتع بعديد السلطات مثل دستور 1959 الذي شهد عديد التنقيحات التي تفضي الى تمتع رئيس الجمهورية بنفوذ غير محدود ويكون بالتالي الرئيس هو المهيمن بطريقة تنحرف معه مقومات النظام الرئاسي لتكون السلطة التنفيذية هي الأقوى أمام بقية السلط نوعا ما لتصبح سلط فرعية وتكون تحت سلطة رئيس الجمهورية التي يكون فيها المقرر الوحيد وفي هذا السياق يشير الخبير ان النظام الرئاسوي لم تظهر بوادره بعد في تطبيق على الدستور الجديد.

أما فيما يتعلق بالنظام الرئاسي يشير الكريمي ان هذا النوع من النظام يكون فيه لرئيس الجمهورية دور تحكيمي ويتقاسم العديد من الأدوار مع رئيس الحكومة من خلال ضبط السياسات العامة للدولة أما بالنسبة للنظام السياسي المكرس في دستور 2022 الذي يفضي الى تكريس الانفراد بالسلطات مثال السلط التنفيذية وهو تعيين الوزير الأول من قبل رئيس الجمهورية ما يحيلنا الى دستور 1959 إثر تنقيح 1976 فإن رئيس الجمهورية له مسؤولية تعيين الوزير الأول  الذي سيتكفل هو بدوره بمعية رئيس الجمهورية بتعيين بقية أعضاء مجلس المستشارين من بين الشخصيات والكفاءات الوطنية.

أية جنان

Related posts

حريق بمقر حركة النهضة يسفر عن وفاة أحد مناضليها

root

وزارة الداخلية : جواز السفر البيومتري في تونس أصبح ضرورة لا مفر منها

root

اليوم : الاحتفال بالذكرى السادسة لملحمة بن قردان

root