سيماء المزوغي
في زمن تسارع الأحداث وتشظي المعاني، تبدو الثقافة أكثر من ضرورة؛ إنها منهج استراتيجي متكامل في السياسة العامة للدول. والمملكة العربية السعودية، التي تخوض منذ سنوات تحوّلاً نوعيًا ضمن رؤية 2030، تفهم تمامًا أن الاستثمار في الثقافة ليس ترفًا، بل هو تأسيس لمكانة حضارية على خارطة التأثير الدولي. وتأتي مشاركتها اللافتة في معرض تونس الدولي للكتاب، في دورته التاسعة والثلاثين (25 أفريل – 4 مايي 2025)، كتجلٍّ لهذا التوجه العميق الذي يوازن بين الإبداع والحضور الدبلوماسي الرمزي.
إن حضور المملكة في هذه التظاهرة الثقافية لم يكن بروتوكوليًا أو مجرد استعراض رمزي. بل يمكن اعتباره نموذجًا ذكيًا لتوظيف الثقافة كقوة ناعمة تتجاوز مفاهيم التبادل السطحي إلى بناء استراتيجيات تأثير طويلة المدى. فالبرنامج السعودي لم يقتصر على عرض الكتب والمنشورات، بل صُمّم ليكون مساحة حوارية حقيقية تفتح النقاش حول قضايا معقدة تمسّ الهوية، الذاكرة، والإبداع في زمن المتغيرات.
الرواية والمقاومة: سؤال الذاكرة والهوية
من أبرز محطات البرنامج الثقافي السعودي كانت الندوة التي انعقدت يوم 26 أفريل بعنوان “الرواية والمقاومة: تجربة الكاتبة في ضياع الذاكرة”، والتي فتحت النقاش حول الكيفية التي يمكن للأدب أن يواجه بها النسيان الجمعي، وأن يحفظ سرديات مقاومة لا تزال مهمشة أو تُمحى بفعل السياسات الرسمية أو تسارع الحداثة.
وكانت الكاتبة والمفكرة السعودية د. بدرية البشر من الأسماء الوازنة المشاركة في هذه الجلسة، حيث طرحت إشكالية مركزية تتعلق بدور المرأة الكاتبة في إعادة بناء الذاكرة الثقافية من موقع غير تقليدي. حضورها أضفى على الحوار مسحة فلسفية تساءلت عن حدود السرد، ومتى يمكن للأدب أن يتحوّل إلى فعل مقاومة حقيقي.
الإبداع الشعري واستعادة اللحظة الجمالية
كما قدّم الشاعر محمد خضر في 30 أفريل قراءة شعرية تميزت بحساسيته الجمالية المفرطة، وبتجربته التي تمزج بين اللغة الشعرية المصفاة والتأمل في المعيش. أما خالد العتيق، فكانت مشاركته في اليوم نفسه عبر قراءات شعرية أيضًا، أعادت الاعتبار لفعل الكتابة كاحتفاء باللغة في زمن الخسارات الكبرى.
ولم يغب الصوت النسائي عن المشهد الشعري؛ إذ شاركت أديم الأنصاري، المعروفة بتجربتها الحداثية، في تقديم قراءة متعددة الطبقات جمعت بين الشجن الفردي وأسئلة الانتماء.
ثقافة مهنية: من المخطوط إلى القارئ
في الأول من ماي، وضمن جلسة خصصت لموضوع الإعلام الثقافي، حيث قدّم حمزة كاملي رؤيته حول الإعلام الثقافي الذي لم يعد ترفًا نخبويًا أو نافذة جانبية في منظومة الإعلام، بل أصبح ضرورة حضارية واستراتيجية، خاصة في ظل التحولات الرقمية الكبرى التي يشهدها العالم. وذكّر بأن الفعل الثقافي، حين يُلامس الإعلام، يتحول من خطاب للنخبة إلى أداة للتأثير الجماعي، إذا ما أحسن توظيفه.
وأكد أن للإعلام الثقافي قدرة على تعزيز الهوية والانتماء، ونشر قيم الحوار والتسامح، وتطوير الذائقة العامة والفكر النقدي، مبرزًا في الآن نفسه دوره في تسليط الضوء على القضايا المجتمعية المعقّدة من زوايا معرفية وإنسانية.
حضور لا يكتفي بعرض الذات بل يحاور الآخر
ما ميّز المشاركة السعودية في معرض تونس ليس فقط تنوّع الأسماء أو المواضيع المطروحة، بل الروح التي صاحبت الفعاليات؛ روح الانفتاح، والقدرة على الاستماع، والتفكير الجماعي مع الآخر. فقد اتضح جليًا أن السعودية تتبنى مقاربة ثقافية لا تُقصي، بل تبني جسورًا فكرية مع المشارب المختلفة. وهي مقاربة نادرة في زمن الاستقطابات.
تُكرّس السعودية اليوم نموذجًا مغايرًا للريادة الثقافية في العالم العربي. إنها لا تتعامل مع الثقافة كمكياج تجميلي، بل كخيار دولة، وكبنية رمزية تأسيسية. وفي هذا السياق، تأتي مشاركتها في معرض تونس الدولي للكتاب لتُظهر بوضوح هذا التحوّل: من ثقافة النخب المعزولة إلى ثقافة مجتمعية حوارية، من استهلاك الثقافة إلى صناعتها.
ربما لا يمكن اختزال كل ما حدث في المعرض في مقال واحد، لكن ما يمكن تأكيده هو أن ما حدث كان أبعد من مجرد مشاركة رسمية؛ كان إعلان نوايا ثقافية ذات أفق بعيد، فيه الكثير من الوعي، وكثير من الذكاء، وقليل من الضجيج. وهذا بالضبط ما تحتاجه الثقافة العربية اليوم.