“كيما اليوم” لليلى طوبال على مسرح الحمامات: صرخة فنية في وجه عالم متصدّع

بأسلوب يمزج بين التخييل المسرحي والتأمل الفلسفي، تأخذ الفنانة ليلى طوبال جمهورها في رحلة تتجاوز الحيرة الفردية إلى أسئلة إنسانية عميقة، لتعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نستعيد إنسانيتنا وسط عالم تطغى عليه القيم المشوّهة؟

 

في سهرة الجمعة 18 جويلية، وضمن فعاليات الدورة 59 من مهرجان الحمامات الدولي (11 جويلية – 13 أوت 2025)، تمّ عرض مسرحية “كيما اليوم”، وهي عمل مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة “الفن مقاومة”. المسرحية من تأليف، إخراج وتصميم سينوغرافيا ليلى طوبال، وتُعدّ تجربة فنية فريدة تغوص في أعماق النفس البشرية، كاشفة عن تناقضاتها وآلامها في عالم مضطرب تسكنه الأسئلة الوجودية.

 

تنطلق المسرحية من حادثة غامضة: اختفاء الطفلة “دنيا” بعد عيد ميلادها، لتتحول هذه الحادثة من مجرد واقعة فردية إلى استعارة لبراءة إنسانية ضائعة في خضم عالم مادي صاخب. “دنيا” ليست مجرد شخصية، بل رمز لإنسان فقد بوصلته، لتصبح المسرحية بحثًا مؤلمًا عن الذات.

 

اعتمدت ليلى طوبال في “كيما اليوم” أسلوبًا دراميًا غير تقليدي، يقوم على تداخل الأزمنة والذوات، حيث يطغى التأمل على السرد، وتتناوب لحظات الحوار الداخلي مع الحضور الرمزي. وقد شارك في تجسيد هذه التجربة كل من مايا سعيدان، أصالة نجّار، دينا وسلاتي، فاتن شرودي، خديجة محجوب، وأمان الله التوكابري، الذين قدموا شخصيات تائهة، تكافح من أجل إثبات وجودها وسط ضياع جماعي.

 

السينوغرافيا التي صمّمتها طوبال تميزت ببساطة شكلية لكنها كانت غنية بالرموز: جدران مثقوبة، متاهات، ظلال وألوان عكست ذاكرة مشروخة ومجتمعًا مكبّلاً. وتم تعزيز هذه الرمزية بتقنيات “المابينغ” التي أعدّها محمد بدر بن علي، والإضاءة الموحية لصبري العتروس، والموسيقى التعبيرية التي وضعها مهدي الطرابلسي. كما أضافت الكوريغرافيا التي صممها عمّار لطيفي بُعدًا حركيًا جسّد التيه النفسي والصراعات الداخلية.

 

النص المسرحي، المكتوب باللهجة التونسية، جاء شاعرًا وبسيطًا في آن، يفيض بالرموز والمجازات التي تسائل الواقع المعاصر وتنتقد ابتعاد الإنسان عن جوهره. ورغم بساطة اللغة، فإنها تحفّز المتلقي على التأمل العميق في معانيها الخفية.

من خلال هذه المقومات الجمالية والفكرية، تطرح المسرحية تساؤلات حول الهوية، والعصر، وتأثير العولمة على الإنسان، لكنها لا تسقط في فخّ اليأس، بل تنتهي بانبعاث “دنيا” من جديد، لتكون رمزًا للأمل واستعادة المعنى والدعوة للعودة إلى الأصل.

“كيما اليوم” ليست مجرد عرض مسرحي، بل تجربة وجودية عميقة تدعو الإنسان لمواجهة ذاته في مرآة الواقع، وإعادة ترتيب أولوياته وسط عالم يضج بالضجيج ويفتقر للمعنى. هي صرخة فنية في وجه القبح، ورسالة أمل في استعادة إنسانيتنا المفقودة.

بهذا العمل، تؤكد ليلى طوبال مرة أخرى رؤيتها الفنية والفلسفية، وقدرتها على المزج بين أدوات المسرح الحديث والمضامين الفكرية، لتقدم توليفة إبداعية متكاملة.

Related posts

العرض المسرحي “ما يراوش” لمنير العرقي يفتتح مهرجان المسرح والمجتمع بسليانة

فيلم “ستارتاب” لنضال السعدي وفاطمة بوعون في قاعات السينما التونسية انطلاقا من 16 أفريل

وزارة الثقافة تنعى مغني الرّاب كافون