مع انطلاق مناقشات مشروع قانون المالية لسنة 2025 داخل اللجان البرلمانية المختصة، بدأت تتبلور بوادر مقاربة جديدة في صفوف النواب تقوم على توحيد المواقف بشأن مقترحات التعديل، بهدف تقديم رؤية مشتركة تُراعي التوازنات العامة للدولة وتستجيب في الوقت نفسه للانتظارات الاجتماعية والاقتصادية الملحّة.
ويأتي هذا التوجه بعد سنة شهدت خلالها مناقشات قانون المالية لسنة 2024 توترا واضحا بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، وطرحت خلالها أكثر من مائة مقترح تعديل اتسم أغلبها بالتشتت والتعارض مع أحكام القانون الأساسي للميزانية. واليوم، يبدو أن الدروس استُخلصت، وأن الرغبة تتجه نحو تحويل النقاش المالي من ساحة تجاذب إلى ورشة عمل جماعية تهدف إلى إغناء المشروع لا تعطيله.
نحو عقلنة المقترحات وتوحيد الرؤية
وتشير المعطيات الأولية من كواليس مجلس نواب الشعب إلى أن عددا من النواب، وخاصة أعضاء لجنة المالية والتخطيط والتنمية، بصدد عقد مشاورات غير رسمية بهدف توحيد مقترحات التعديل قبل عرضها رسميا في الجلسات العامة.
وتقوم الفكرة الأساسية على اختصار التعديلات في نقاط جوهرية محددة، تُعرض بشكل منسق ومدعوم بالأرقام والحجج الواقعية، حتى تكون قابلة للنقاش والتبني من قبل وزارة المالية والحكومة.
هذا المسار، وإن لم يُعلن عنه رسميا بعد، يهدف إلى تفادي ما وصفه أحد النواب بـ“الفوضى التشريعية” التي رافقت مناقشات الميزانية الماضية، حين قُدمت مقترحات عديدة ومتناقضة أربكت المسار وأثقلت كاهل الإدارة البرلمانية. ويؤكد هؤلاء النواب أن المطلوب اليوم هو التعامل بعقلانية ومسؤولية مع قانون المالية، لأنه ليس مجالا لعرض المواقف السياسية أو تسجيل النقاط، بل هو الإطار الذي تُبنى عليه اختيارات الدولة للسنة القادمة.
وتتجه المشاورات كذلك نحو العمل الجماعي بين الكتل والمستقلين من أجل صياغة تعديلات تُعبّر عن المصلحة العامة لا عن المصالح القطاعية أو الجهوية. وقد بدأ فعلا التنسيق بين عدد من النواب المالية لوضع ورقة مشتركة تتضمن مقترحات دقيقة حول الجباية، ودعم الاستثمار، وإصلاح الأداء الضريبي، وترشيد نفقات الدعم دون المساس بالفئات الضعيفة على الرغم من ان مناقشة الاحكام لم تبدأ
من التوتر إلى الشراكة
يُجمع موراقبون للشأن البرلماني على أن التحول في المناخ السياسي داخل المجلس كان ضروريا حتى تُنجز مناقشات قانون المالية في مناخ من الهدوء والنجاعة. فالعام الماضي، ساد توتر ملحوظ بين بعض النواب ووزارة المالية بسبب غياب التنسيق المسبق وتضارب التوجهات بين من يريد زيادة النفقات الاجتماعية ومن يتمسك بالتوازن المالي.
اليوم قد يتجه الطرفان إلى منهج الشراكة والتفاهم. فقد أبدت وزارة المالية استعدادها للاستماع إلى مقترحات النواب بشرط أن تكون واقعية وقابلة للتنفيذ في إطار التوازنات العامة للدولة. ومن المنتظر أن تُعقد خلال الأيام القادمة جلسات عمل مشتركة بين لجنة المالية وممثلي الوزارة لتوضيح بعض الإجراءات الواردة في المشروع وتقديم الأرقام المفصلة حول النفقات والموارد.
وتبدو الحاجة ماسة الى وعيا متبادلا بأن نجاح قانون المالية ليس نجاح الحكومة وحدها، بل نجاح المنظومة بأكملها، وأن التوافق بين الوظيفتين في المرحلة الراهنة يُعدّ شرطا أساسيا لتجنب مزيد من الضغوط المالية والاجتماعية، خاصة مع تواصل ارتفاع كلفة تمويل الميزانية وضعف هامش المناورة في الموارد الذاتية.
في السياق ذاته، برزت دعوات من داخل المجلس لتجنب تكرار التعديلات التي تفتقر إلى التقدير المالي الدقيق، والتركيز بدل ذلك على تقديم مقترحات عملية تعزز الإيرادات وتضمن استدامة التمويل، مثل مكافحة التهرب الضريبي، وإصلاح منظومة الدعم تدريجيا، وتوسيع قاعدة المساهمين الجبائيين.
و تُجمع الآراء على أن التحدي الأبرز الذي يواجه النواب في مناقشة قانون المالية الجديد هو تحقيق التوازن بين الواقعية والطموح. فالوضع الاقتصادي الراهن يفرض الحذر في الإنفاق، في حين تتزايد المطالب الاجتماعية والجهوية بزيادة الاعتمادات المخصصة للتنمية والتشغيل.
ويرى عدد من أعضاء لجنة المالية أن هذا التوازن لا يمكن تحقيقه إلا عبر مراجعة بعض الفصول التي تهم التحفيز على الاستثمار ودعم القطاعات المنتجة دون تحميل الميزانية أعباء إضافية. فالمطلوب اليوم هو تشجيع النمو من الداخل، عبر تسهيل الإجراءات الجبائية، وتبسيط المسالك الإدارية، وتحسين مناخ الأعمال، بدل اللجوء إلى الاقتراض أو فرض ضرائب جديدة.
كما تُطرح في هذا السياق مسألة ترشيد النفقات العمومية وإعادة ترتيب الأولويات، خاصة في مجالات الدعم والتوظيف العمومي والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الاقتصادية. فالتوافق البرلماني المنتظر قد يفتح الباب أمام إدخال تعديلات دقيقة على هذه الملفات الحساسة، بما يسمح بتقليص العجز دون المساس بمكاسب الفئات الضعيفة.
و من جهة أخرى، تتجه الأنظار إلى كيفية تفاعل الحكومة مع التعديلات المزمع فالتجارب السابقة أظهرت أن وزارة المالية كانت غالبا ما تتحفظ على تعديلات النواب بحجة التوازنات العامة أو غياب التمويل المقابل. أما هذه السنة، فثمة رغبة معلنة في التفاعل الإيجابي مع مقترحات عملية ومُبررة تُسهم في تحسين مردودية الجباية وتحقيق العدالة الجبائية.
إن قدرة المجلس على إنتاج تعديلات واقعية ومقنعة قد تجعل من قانون المالية القادم محطة توافق وطني تعكس إدراك الجميع لحساسية الظرف ودقة المرحلة. فالتحدي اليوم ليس في حجم الأرقام بل في نوعية الخيارات، ولا في تعدد المقترحات بل في مدى انسجامها مع المصلحة العامة.
