أعاد “حوار الأوتار 2” بتوقيع الموسيقار والمايسترو كمال الفرجاني التفكير في شكل الأداء الموسيقي العربي من خلال مقاربة أوركسترالية تقوم على توزيع الأدوار بين الآلات والصوت البشري، وذلك ضمن تصور موسيقي يوازن بين الموسيقى الشرقية والألحان الغربية، ليبني جسرا ثقافيا بين الشرق والغرب دون أن تفقد الموسيقى الكلاسيكية هويتها الأصلية. وقد تمّ تقديم هذا العرض في سهرة الثلاثاء 22 جويلية بمسرح الهواء الطلق بالحمامات ضمن فعاليات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي (11 جويلية – 13 أوت 2025).
وقد استُهلّت السهرة بعرض شريط وثائقي قصير تضمّن شهادات حية عن المسيرة الموسيقية للفنان وناس خليجان وتناول محطات من تجربته الفنية التي جمعت بين الأصالة والتجديد. تلت ذلك إطلالة الفنان هيثم الحذيري الذي قدّم مقطع “البستان” من ألحان وناس خليجان في افتتاحية ترجمت رمزية التكريم وروح الوفاء التي تطبع هذا المشروع الجماعي.
وجاء عرض “حوار الأوتار 2” ترجمة فعلية لرؤية الموسيقار كمال الفرجاني الذي سعى من خلاله إلى بناء جسور موسيقية بين الشرق والغرب عبر مزج ذكي بين الأنظمة اللحنية الشرقية والكتابة الأوركسترالية الغربية دون أن يفقد الأعمال الموسيقية روحها الأصلية أو طابعها الثقافي. ويؤمن الفرجاني بأن التنوع الثقافي هو منبع للثراء الفني والتفاعل الإنساني، وهو ما بدا جليا في كل تفصيلة من العرض.
ويمثّل “حوار الأوتار” مشروعا فنيا متعدد الأبعاد أطلقه الفرجاني منذ نحو 20 سنة (2006) وهو يجمع بين الموسيقى الشرقية والعناصر الأوركسترالية الغربية في تجربة تتجاوز التصنيفات التقليدية وتسعى إلى تقديم رؤية تونسية أصيلة ومجدّدة للموسيقى العربية.
وقد تميّز العرض بتوزيع موسيقي دقيق ومتوازن حيث أدّت كل مجموعة آلات دورا شبه درامي أشبه بالشخصيات في عمل مسرحي، وهو ما منح كل مقطوعة طابعا سرديا منفردا. كما شكّل التناغم بين الأصوات البشرية والآلات أساسا جماليا عزّز من إيقاع العرض على مدى ساعتين من الزمن. وقد كان رهان كمال الفرجاني في العرض أيضا على الصوت البشري كأداة تعبيرية ساحرة وناطقة، إذ جمع بين أصوات مختلفة من حيث التجربة والخامة لتقديم فسيفساء صوتية غنية بالتنوّع والانسجام في آن واحد.
أما الجمهور الذي حضر بأعداد كبيرة وملأ مدرّجات المسرح، فقد ظلّ وفيا للعرض حتى نهايته وصفّق طويلا تقديرا للعمل الجماعي المنجز والتوليف الموسيقي البديع الذي حافظ على روح التراث من جهة وفتح نوافذ للتجديد من جهة أخرى.
وقدّم كمال الفرجاني خلال هذا العمل مقاربات موسيقية مبتكرة تجلّت منذ المقطوعة الافتتاحية “استخبار” التي ألّفها بنفسه ووزعها وناس خليجان، مرورا بأغنية “الليل يا روحي” (كلمات آدم فتحي، ألحان إدواردو دي كابوا) التي تولّى الفرجاني إعادة توزيعها في صياغة أوركسترالية جديدة، وصولا إلى “كبرت يا أمي” (نص نزار قباني وألحان كمال الفرجاني وتوزيع وناس خليجان)، حيث تجلّت حساسيته في التعامل مع النصوص الشعرية الكبرى.
وتميّز العرض بمشاركة نخبة من الأصوات التونسية تمثّل مختلف الأجيال. وقد كانت الإطلالة الأولى أنيقة للفنانة رحاب الصغير التي أبدعت في أداء “زهرة المدائن” و”البلاد اللي تغني عليها”، قبل أن تعود لاحقا لتقدّم “محلا ليالي أشبيلية” و”كبرت يا أمي”.
وغنّى هيثم القديري إلى جانب “الليل يا روحي” من كلمات آدم فتحي وموسيقى ادواردو دي كابوا، “كأنّا لا تعارفنا” وهي أيضا من أشعار آدم فتحي وألحان جورج بيزي بتوزيع كمال الفرجاني.
أما سليم دمق، فقد تألق في “أنا هويت” لسيد درويش بصياغة أوركسترالية جديدة و”كامل الأوصاف فتني” من ألحان محمد الموجي، بينما غنّى من الريبرتوار الجزائري “يا رايح” (دحمان الحراشي) بتوزيع وناس خليجان، وأدّى أيضا أغنيته الخاصة “ليامات”.
من جهتها، قدّمت بثينة نابولي وصلة من مقام “محير سيكا” ضمّت مختارات من التراث التونسي على غرار “يا مقواني” و”آه وادعوني” و”حزت البها والسر” من ألحان خميس الترنان و”آه يا خليلة” موسيقى صالح المهدي بتوزيع جديد لوناس خليجان، ثم عادت لتقدّم أغنية “انحبك” من أشعار سيرين شكيلي وتوزيع إلياس بلاقي وأغنية “يا بنت بلادي” من التراث المغربي.
واختُتم العرض بأداء جماعي لأغنية “القمر المصلوب” من كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد وألحان حسين نازك وتوزيع وناس خليجان، في لحظة جمعت الأصوات جميعها ورسّخت رسالة العرض الفنية والإنسانية.
وسمح “حوار الأوتار 2” بإعادة تقديم أعمال عربية وغربية في قراءات موسيقية جديدة مع توظيف الشعر العربي خصوصا نصوص آدم فتحي وخالد الوغلاني في أغان تحمل روحا معاصرة. كما نجح الموسيقار كمال الفرجاني في توجيه الأصوات واختيار النصوص وإعادة توزيع الألحان في مشهد موسيقي يعانق الجمال ويعيد تعريف العلاقة بين الشرق والغرب بين الكلمة واللحن وبين التراث والتجريب من أجل إعلاء راية القيم الإنسانية الكونية وأهمها الحرية والعدالة والسلام.
ويتجدّد الموعد في سهرة اليوم الأربعاء 23 جويلية مع المجموعة الموسيقية الإيطالية “أديكت أميبا” التي تتخطى حدود الثقافة لتعزّز الأخوة كأداة للعيش عبر الموسيقى من خلال المزج بين الإيقاعات الأفرو-لاتينية المستوحاة من الفلكلور الإفريقي وأمريكا الوسطى.