مهرجان أوذنة الدولي للفنون الشعبية يستقطب 63 ألف متفرج: ليالٍ تراثية تُحيي الذاكرة

على بُعد نحو ثلاثين كيلومترًا من العاصمة التونسية، وتحديدًا في ولاية بن عروس، عزف التاريخ لحنه الخاص على ركح المسرح الأثري بأوذنة، حيث تماهت الحجارة القديمة مع نسائم الصيف، فارتفعت الأصوات وتراقصت الخطى وتعددت الألوان، في تظاهرة فنية احتفالية جمعت بين التراث التونسي العريق ونبض الفنون الشعبية العالمية.

 

فقد احتضن هذا المعلم التاريخي الشامخ فعاليات الدورة الأولى من المهرجان الدولي للفنون الشعبية بأوذنة، الذي نظمته وزارة الشؤون الثقافية من 26 جويلية إلى 5 أوت 2025، في تجربة ثقافية نوعية، نجحت في استقطاب حوالي 63 ألف متفرج على امتداد إحدى عشرة سهرة، مثّلت كل واحدة منها لحظة فنية وإنسانية استثنائية.

 

افتتحت التظاهرة يوم 26 جويلية بعرض افتتاحي للفرقة الوطنية للفنون الشعبية تحت عنوان “أصايل”، قدّم رحلة بصرية وصوتية عبر الذاكرة التونسية، مزجت بين المسرحة والاستعراض، وأعادت تشكيل لوحات تراثية راقصة بأسلوب حديث، شدّ انتباه الجمهور وأيقظ فيهم الحنين.

 

أما السهرة الموالية، فقد كان الموعد مع الفنان القدير الهادي دنيا، الذي قدّم وصلات غنائية استلهمت أجواء التصوف التونسي. غنّى للحب وللروح، واستحضر زوايا العشق السماوي في أداء حميمي شعري، تجاوز حدود الكلمات ليلامس أعماق المتلقّين.

 

وفي سهرة 28 جويلية، امتلأت مدارج المسرح بأكثر من 5000 متفرج، حضروا للاستمتاع بصوتين بدويين يعبّران عن عمق الريف التونسي، هما عبد الرحمان الشيخاوي ونضال اليحياوي، اللذان قدّما أداءً عابقًا بالنكهة البدوية، احتفى بتفاصيل الحياة اليومية في الريف والساحل والجبال.

 

ومن قلب مصر، جاء الفنان محمود الليثي ليضفي على المهرجان جرعة من الفرح والرقص والاحتفال، في عرض مليء بالحيوية طغت عليه الروح المصرية الأصيلة. تمايلت الأجساد على وقع أغانيه الراقصة، في سهرة أكدت أن الفنون الشعبية، مهما اختلفت أصولها، تتكلم لغة واحدة يفهمها الجميع.

 

وفي سهرة تحمل نكهة المغامرة الموسيقية، التقت الفنانتان إقبال الحمزاوي ومريم العبيدي لتقدّما عرض “تونيزيا لاتينا”، مزجًا موسيقيًا بين الآلات الشرقية والغربية، في توليفة فنية رقيقة جمعت بين تراث المتوسط وإيقاعات أمريكا اللاتينية، فكانت تجربة جريئة تمزج الجذور بالآفاق، وتعيد تقديم الموروث بأسلوب عصري.

 

تغيّر الإيقاع مساء 31 جويلية مع صعود الفنان سمير الوصيف إلى الركح، حيث غنّى كما لو أنه يروي فصولًا من حكاية تونس الشعبية، مستحضرًا شوارعها وأعراسها وأفراحها ووجدانها الجمعي. تفاعل معه جمهور قُدّر بحوالي 8000 متفرج، في سهرة كانت احتفاءً بالذاكرة الشعبية التونسية.

 

تنوّعت العروض بعد ذلك وتوزعت بين الغناء النسوي القوي للفنانة زينة القصرينية، التي أعادت تقديم الأغنية الشعبية النسائية بأسلوبها الخاص، إلى السهرة الجماهيرية التي أحياها الفنان وليد التونسي، والتي جمعت بين العاطفة والفرح وجذبت أكثر من 8500 متفرج. ثم جاء عرض الفنان نور شيبة ليضيف نفَسًا عصريًا للأغنية الشعبية، وسط حضور فاق 9500 متفرج.

 

وفي لفتة إنسانية رمزية، خُصصت إحدى ليالي المهرجان للفن الفلسطيني، حيث قدّمت فرقة الكوفية للتراث الفلسطيني عرضًا مفعمًا بالحياة، مزجت فيه بين الرقص والدبكة والزي التقليدي، لتروي على الركح حكاية أرض ما زالت تقاوم عبر الفن، وجاءت هذه السهرة كتحية من تونس إلى فلسطين، عنوانها الوفاء والتضامن.

 

اختُتم المهرجان بصوت من الزمن الجميل، الفنان نور الدين الكحلاوي، الذي اصطحب الجمهور في رحلة بين المقامات الدينية والأغاني التراثية، قبل أن يُسلّم المشعل إلى ابنته مريم نورالدين، التي قدّمت أداءً يعكس جيلًا جديدًا يُعيد صوغ التراث بروح حداثية متألقة، أمام حضور قارب 10 آلاف متفرج.

 

وهكذا، أسدل الستار على الدورة الأولى من المهرجان الدولي للفنون الشعبية بأوذنة، وقد نجح في أن يتحول إلى منصة حقيقية للتعبير الثقافي، ومساحة للاحتفاء بالهوية الشعبية التونسية في تفاعلها مع نظيراتها في العالم، مؤكّدًا أن للفن الشعبي، بكل بساطته وعمقه، قدرة فريدة على توحيد الناس حول ذاكرة واحدة وصوت واحد ينبض بالحياة.

Related posts

وزارة الشؤون الثقافية تنعى “كروان الإذاعة” عادل يوسف

الشاب بشير في اختتام مهرجان الفسفاط بالرديف

Ra Mzi

دورات تدريبية في الصناعة الثقافية: أن يكون أبناء الجهات وقودا للعمل الفني

ريم حمزة