تظاهرة “دريم سيتي” تحتفي بفن المقاومة الفلسطينية في قشلة العطارين

يتواصل في الطابق الأول من قشلة العطارين في مدينة تونس العتيقة واحد من أبرز المعارض البصرية ضمن الدورة 10 لتظاهرة “دريم سيتي” التي افتتحت يوم 3 أكتوبر وتستمر حتى 19 من هذا الشهر. وقد تحولت القشلة التي كانت في الأصل ثكنة عسكرية إلى فضاء فني حديث يحتفي بالصورة والفكر ويضم مجموعة من الأعمال التركيبية والسينمائية والفوتوغرافية القادمة من مؤسسة الشارقة للفنون تحت عنوان “في عيون حاضرنا نسمع فلسطين”.

 

ويقدم المعرض أعمالا لفنانين فلسطينيين وعرب وأجانب هم رائدة سعادة وشريف واكد وبسمة الشريف وآيرين آناسطاس ورينيه جابري، بالإضافة إلى جمانة منّاع وسيلي ستوريهل. وتتميّز هذه الأعمال بقدرتها على مساءلة الواقع الفلسطيني بعيدا عن الخطاب المباشر، وذلك من خلال رموز ومشاهد تستحضر الذاكرة اليومية وتحولها إلى لغة بصرية ذات أبعاد إنسانية كونية مقاومة تأبى النسيان.

ويستقبل المعرض زواره بعمل الفيديو الشهير للفنانة الفلسطينية رائدة سعادة بعنوان “مكنسة كهربائية”، وهو عمل يقدم مشهدا عبثيا لفنانة تكنس الرمال في صحراء فلسطين. ومن خلال هذا الفعل اليومي المكرّر، تستحضر سعادة ثنائية العبث والمقاومة لتقدم قراءة رمزية لانشغال الإنسان بأعماله الروتينية التي تغطي على إخفاقات النظام الأوسع. ويحمل العمل رسالة سياسية ضمنية تتحدى شعار الحركة الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، مؤكدة استحالة محو ذاكرة الأرض أو اقتلاعها من وجدان أهلها. وقد تم تصوير العمل بين أريحا والبحر الميت بتكليف من بينالي الشارقة الثامن سنة 2007.

 

وفي عمله “يتبع…” (2009)، يقدم الفنان شريف واكد معالجة نقدية لعلاقة الإعلام المعاصر بمفهوم الشهادة والمقاومة، ويظهر في الفيديو الممثل الفلسطيني صالح بكري جالسا أمام الكاميرا يقرأ مقتطفات من كتاب “ألف ليلة وليلة” بدل أن يقدم بيانا سياسيا كما يفعل الاستشهاديون عادة في تسجيلاتهم. ومن خلال هذا التوازي بين السرد والنجاة، يطرح واكد فكرة أن الحكاية يمكن أن تكون وسيلة للبقاء وممارسة للمقاومة في الوقت نفسه، مؤكدا أن فعل القص هو أيضا فعل للحياة في وجه الموت.

 

وتتناول الفنانة الفلسطينية المقيمة في برلين بسمة الشريف في فيلمها “ابتدأنا بقياس المسافات” (2009) مفهوم القياس كمجاز للعلاقة بين الواقع والخيال وبين الخرائط والسيادة. ويعرض الفيلم لقطات جوية للمباني المدمرة في غزة ترافقها أصوات مجموعة من الأشخاص الذين يخترعون لعبة لتحديد المسافات بين المدن والمواقع السياسية في تلميح إلى عبث مؤتمرات السلام المتكررة. ويمزج العمل بين الوثائقي والتجريبي ويستكشف الإرث الاستعماري عبر الحدود والذاكرة بأسلوب بصري هادئ يستند إلى السرد التأملي والصوت الحيادي، ما يمنحه بعدا إنسانيا كونيا يتجاوز الجغرافيا.

وكان هذا الفيلم قد جائزة لجنة التحكيم في بينالي الشارقة التاسع..

 

ويقدم الثنائي الفني آيرين آناسطاس ورينيه جابري عملهما “يجوز الكل يعرف” (2006)، وهو فيديو تركيبي مؤلف من 16 مقطعا صُوّر أثناء رحلة عبر فلسطين والأراضي المحتلة. ويسعى العمل إلى توثيق مشاهد من الحياة اليومية لشخصيات مختلفة من ناشطين وعلماء جغرافيا إلى بدو وأسرى سابقين، وذلك بهدف إبراز التعقيدات السياسية والاجتماعية والنفسية التي يعيشها الناس تحت الاحتلال. ويمنح التعدد الصوتي والبصري في العمل المشاهد فرصة لإعادة النظر في المفاهيم السائدة حول فلسطين ويعيد تعريف “السرديات السائدة وطريقة التفاعل مع التجارب المعيشية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

 

ويُختتم المعرض بالفيلم الوثائقي الإبداعي “نظام الخير” الذي أخرجته الفنانة الفلسطينية جمانة منّاع بالتعاون مع الباحثة النرويجية سيلي ستوريهل. ويقدم العمل قراءة نقدية لصورة النرويج كدولة للسلام من خلال استعادة أحداث تاريخية من نكبة سنة 1948 إلى اتفاقيات أوسلو سنة 1993. ويعاد تمثيل تلك الوقائع على لسان أطفال يؤدون أدوار القادة ما يخلق مفارقة بصرية ساخرة بين براءة الأداء وحدة الخطابات السياسية. ويعرض الفيلم التناقض بين الخطاب المثالي للدول الوسيطة وصورة الواقع السياسي. ويطرح تساؤلات حول العلاقة بين الهوية الوطنية و”فعل الخير” في السياسة الخارجية.

 

ورغم اختلاف الوسائط الفنية، تجمع هذه الأعمال روح فكرية واحدة تقوم على مساءلة الواقع السياسي عبر اللغة الجمالية. فكلّ عمل ينطلق من التجربة الفلسطينية لكنه يتجاوزها ليطرح أسئلة عن الإنسان في علاقته بالسلطة والهوية والزمن. وتتقاطع الأعمال في رؤيتها إلى الفن كفعل مقاومة. فالمكنسة في عمل رائدة سعادة والقراءة في عمل شريف واكد والقياس في فيلم بسمة الشريف والتوثيق في مشروع آناسطاس وجابري والسخرية في فيلم منّاع وستوريهل كلها أفعال رمزية للمقاومة اليومية تنبّه المشاهد إلى أن مواجهة النسيان قد تبدأ من أبسط التفاصيل. كما تتشابه هذه التجارب في تفكيك السرديات الكبرى سواء كانت استعمارية أو إعلامية أو إنسانوية.

 

وتفضح سعادة شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. ويعيد واكد النظر في رمزية “الشهيد” وتنتقد منّاع الخطاب الغربي عن “السلام”، في حين تكشف بسمة الشريف ورفاقها عبث السياسات الدولية. كما يجمع بينها الطابع التأملي والبطء الزمني في التصوير مع اعتماد الصوت المحايد والصورة البسيطة التي تتيح للزائر التفكير بدل التلقي.

Related posts

قيس شقير: “سبق الخير” ليس مجرّد سلسلة هزلية

ليلى علوي تنتظر العرض العالمي الأول لـ”آل شنب” في مهرجان الجونة

أيام قرطاج الكوريغرافية: المائدة المستديرة “تحديات تنقل الفنانين في  بلدان الجنوب”.. لماذا يكون الشمال هو الوجهة؟

root